السبت، 20 سبتمبر 2008

لأن أحلامنا صغرت


لأن أحلامنا صغرت ... فهمي هويدي

19/ 09 / 2008
حين كتبت في هذا المكان قبل أيام منتقداً غيبة مصر والعرب عموماً عن استثمار التفاعلات الحاصلة في الساحة الدولية لصالح قضاياهم، فإن بعض القراء لم يستوعبوا كلامي واستثقلوه، كان تعليقي منصباً علي تداعيات التدخل الروسي في جورجيا، الذي أحدث شرخاً عميقاً في العلاقات مع الولايات المتحدة ، كما أدي إلي توتير العلاقات بين موسكو وتل أبيب، بسبب الدعم العسكري الذي تقدمه إسرائيل لحكومة جورجيا،
واعتبرت أن من شأن هذه التطورات أن تحدث تغييراً لا ينبغي تجاهله في خريطة التحالفات والعلاقات في الساحة الدولية، الأمر الذي يمكن استثماره لصالح تعزيز موقف القوي الرافضة للصهينة الأمريكية في منطقتنا، كما يمكن توظيفه في حسابات الصراع العربي الإسرائيلي.هذه الفكرة التي عرضتها قال لي بعض القراء إنها صعبة الهضم، وإنها ذكرتهم بمقالاتي يوم الثلاثاء، في حين أنهم يتوقعون مني في هذه الزاوية كتابات أقل دسامة وأسهل في الهضم، وهي فكرة لا اعتراض لي عليها، ليس فقط لأن القارئ ـ كالزبون ـ دائماً علي حق، وإنما أيضاً لأن هذا ما تعلمناه من أساتذتنا في المهنة، ومنهم الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي كان يقول إن المقال وجبة تُقدم إلي القارئ، في حين أن الزاوية اليومية «رصاصة» وحيدة موجهة إلي هدف بذاته، مفضلاً أن تظل مصوبة دائماً نحو القبح والظلم والتخلف، وكان تقديري ولا يزال أنني فيما كتبت ألتزمت بهذه الحدود، لكن تعليقات بعض القراء جعلتني أراجع نفسي مرة أخري، واتساءل: هل كانت الفكرة التي طرحتها صعبة الهضم حقاً، أم أنها كانت غريبة علي الأسماع، أي هل الغلط في الإرسال أم في الاستقبال؟!رجحت الاحتمال الثاني، لأنني لا أخفي قلقاً من حالة الانكفاء علي الذات الشائعة في الخطاب السياسي والإعلامي في مصر، وهي حالة أحسبها فريدة في تاريخنا المعاصر، لأننا عرفنا هذا البلد وعشناه مفتوح الأبواب للجميع، وماداً يد العون والتأييد للأحرار من العرب والأفارقة علي اختلاف مشاربهم، وحاضراً في قضايا المنطقة الصغرية منها والكبيرة، وساعياً إلي عقد التحالفات التي تخذم قضايا المنطقة وتعزز من موقف الدول المعادية للاستعمار والساعية إلي الدفاع عن استقلالها الوطني والالتزام بعدم الانحياز.في خطابنا السياسي والإعلامي تآكلت هذه الصورة حتي اختفت ملامحها من الإدراك العام، وما تبقي منها لم يعد يتجاوز حدود الذكريات التي يستعيدها أبناء جيلنا والأجيال التي سبقتنا، ويجترونها بين الحين والآخر، لم تعد أقطارنا مشغولة لا بالقضايا الكبيرة ولا بالأحلام الكبيرة، وإنما أصابت العالم العربي ومصر في المقدمة منه حالة من الانكفاء علي الذات، غذتها عوامل عدة، منها الشعارات التي رُفعت في أكثر من بلد، داعية إلي نفض الأيدي من قضايا الأمة وأحلامها، بحجة أن «بلدنا أولاً»، وهي التي عنت في أحيان كثيرة أن همومنا الحياتية هي ما ينبغي أن تنشغل به، وليذهب الآخرون إلي الجحيم، وقد لقيت هذه الفكرة رواجاً في أجواء الفشل الذي منيت به أنظمتنا التي عجزت عن توفير رغيف الخبز ومياه الشرب كما عجزت عن تقديم التعليم والسكن والرعاية الصحية للناس، حيث بدا من الصعب علي أناس يقفون في طوابير الخبز أن يستوعبوا كلاماً عن تحرير فلسطين أو الأمن القومي العربي أو عدم الانحياز، وبسبب قصور الرؤية الإستراتيجية وعجزها، فإن الخطاب السياسي والإعلامي فشل في أن يربط بين الأحلام الصغيرة والكبيرة، باعتبار أن تحقيق الأولي سبيل وشرط لبلوغ الثانية، وكان ذلك الفشل سبباً في الخلل الذي أدي إلي التعلق بالأحلام الصغيرة، وإسقاط الأحلام الكبيرة من الحسبان.وإذ تشكل إدراك مشغول بمباريات الأهلي والزمالك وبطوابير الخبز والسحابة السوداء وتسريب الامتحانات والعبارة وهشام طلعت مصطفي وحريق مجلس الشوري وكارثة الدويقة، فمن الطبيعي أن يستغرب الناس دعوة إلي الاحتشاد في مواجهة قوي الهيمنة أو استثمار متغيرات الساحة الدولية للدفاع عن مصالح الأمة.لقد صغرت أحلامنا حين انكفأت مصر وصغرت، وصارت مفعولاً به بعد أن كانت فاعلاً قوياً ملء السمع والبصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق